قصة دموع القمر، من القصص الخيالية المشوقة قبل النوم، ضع السماعات واستمع، سوق الحكايات والقصص
كان يا ما كان في قديم الزمان مملكة يحكمها ملك عظيم يدعى السلطان سمو الدين. والذي عرف بين شعبه بعدله وحلمه. وحرصه على رفاهية شعبه. وكان اشد وطأ على المفسدين من ولاته وعماله. يعاقبهم على تقصيرهم ويعزلهم حين يفشلون في تنفيذ المهام التي يوكلها اليهم. وكل من ثبت منهم عليه اختلاس او ظلم او تقصير في حق احد من مواطني مملكته. وتأكد لديه ذلك بالحجة اقام له محاكمة علانية وحكم عليه بالسجن والعقاب الشديد حتى يرتدع غيره. حتى بات لا يطلب احد منهم منصبه مسئولية الا وهو على يقين من قدرته على اداء الامانة التي يحملها. عاش الملك سمو الدين شهما مخلصا منذ ان تسلم العرش بعد وفاة والده. وادرك الشعب بما لا شك فيه انه خير من يحكمهم. فلم يسع للخروج عن طوعه وامره احد من رعاياه. بل ان ابسط البسطاء منهم كانوا يدعوا له بالعمر المديد. ويتمنى ان يمتعه الله بالصحة والعافية ليطول بقاء حكمه فيهم. الى ان يحين الوقت ليخلفه الامير وابنه الوحيد الذي يدعى ضياء الدين. ولشدة ما يرجون ان يكبر الامير الصغير ويصبح صالحا كابيه الملك. ويقتفي اثره في سياسته الحكيمة. ولد ضياء الدين حين كان والده في الاربعين من عمره. فقد تأخر الملك في الزواج لان والده رفض ان يسمح له بالزواج من الفتاة التي اختارها هو لنفسه. وبدلا من ذلك اراده الملك ان يتزوج اميرة من احدى الممالك المجاورة. وثبت حينها لسمو الدين انها لا تليق به. فاجل الزواج الى ان تولى العرش بعد والده. فتزوج الفتاة التي ارتضاها لنفسه. وجعلها ملكة تشاركه الملك والحكم في مملكته. وبعد سنتين من زواجهما انجبا الامير ضياء الدين. ولشد ما كانت فرحتهما والشعب معهما بولادته. اقيمت الافراح به في كل ارجاء المملكة. وتقدم لرعايته مع الملكة ابرع المربيات. حين بلغ الامير الصغير عشر سنين من عمره الم مرض شديد بالملكة اقعدها الفراش. وظن الملك في بادئ الامر انها مجرد وعكة ستزول سريعا. وتفاءل بالشفاء لزوجته الملكة. ولما بدا له ان مرضها اتصل ولم ينقطع. ولم ينفع معه دواء مما اوصى به طبيب القصر. انتقى لها خير اطباء مملكته وجمعهم راجيا في تعاونهم بلوغ المرام. واختراع دواء يذهب مرض الملكة. فمكثوا يتباحثون ويجربون دواء بعد اخر. حتى عجزوا تماما عن مرضها. فارسل في مدائن مملكته يسأل عن غيرهم. ولما لم يجد احدا منهم هناك قادرا على مداواة الملكة. بعث رسل الى الممالك المجاورة يسائل ملوكها ان يرسلوا له خير اطبائهم لعلاج زوجته. لازم الامير الصغير امه التي كانت على شبه يقين من ان اجلها قد دنا. واساءها كثيرا ان تتركه وهو لا يزال صغيرا. لكنها على استياءها ذاك وشعورها بالحزن من اجله. قاومت اوجاع مرضها كلما حضرها الامير في اوقات وتتحامل على نفسها موصية اياه بنفسه وبوالده الملك. وتحثه على الصبر على كل حزن قد يبتلى به. وتعزز لديه ثقة به. مخبرة اياه. انها تشعر بالفخر من اجله. وواعدة اياه. بانه سيصبح ملكا عادلا كابيه. يحبه شعبه ويكنون له الاحترام والتقدير. كانت تخبر ابنها الامير ان وصوله الى منزلة والده يستدعي منه ان يتبع خطاه ويتعلم منه فنون الحكم والسياسة. ويضع نصب عينيه مصلحة شعبه قبل نفسه. فجعلته تلك النصيحة ينظر الى والده نظرة اكبار وتبجيل. وشعر بان والده بطل يقف سدا منيعا ضد الاعداء من خارج المملكة ومن داخلها ضد الذين يسعون لنيل وجاهة ومنصب بغير وجه حق. فتطلع وهو يعد الملك على فراشها بان يكون حكيما عادلا متبصرا كوالده. ووعدها ان يجعلهما فخورين به على الدوام. تفاقم مرض الملك بالرغم من ان الاطباء اكدوا للملك انها ستشفى من مرضها. ان هو اختار بعضا من اقوى رجاله وارسلهم الى بعيد خارج المملكة. حيث يوجد جبل شاهق يخترق السحاب. ونجحوا في ان يحضروا لها منه ترياقا يطلق عليه دموع القمر. استغرب الملك من هذا الامر. فاستقصى عنه مرسلا رسولا يثق به بشكل سري الى تلك البلاد. فانبأه الرسول بعد عودته ان اهل تلك البلاد يقولون بان هذا الامر مجرد خرافة. اذ لم لهم ان شاهدوا احدا صعد ذلك الجبل يعود منه سالما او حاملا معه ترياق. بل كل من سعى لذلك الترياق يلقى حتفه اما ساقطا من اعلى الجبل او مقتولا على سفحه بالصواعق. التي تضرب الجبل في كل حين. او عائدا يرتعد من الخوف. وهو لم يطأ بعد سفح الجبل. من هول ما رآه من لهيب الصواعق. واكد له ان لا احد منهم رأى في حياته ابدا. شخصا نجح في الصعود الى قمة الجبل. وعاد منه بالترياق المزعوم. بعد ان اخبر الملكة بهذه الاخبار. اخبرته والحت عليه. ان لا مفر من الاستسلام والرضا بقضاء الله. واكدت له ان لا فائدة من التضحية باقوى رجاله او باي احد من شعبه في سبيل البحث عن شيء لا دليل على وجوده يقينا. ورأت انه ما من ضرورة تدعو لاهلاك حياة احد من اجل انقاذ حياتها هي. لان تلك خسارة في كل الاحوال. حتى وان نجت وعاشت بفضل من ضحى بنفسه من اجلها. فاشارت عليه الا يفعل هذا ابدا. فهي تفضل ان تموت بمرضها على ان يهلك احد من شعبه من اجل انقاذها. لان تلك ستكون سبة يعيبه بها من يحاولون انتقاصه من المتربصين. فتخلى الملك عن البحث عن ترياق دموع القمر والامل الاخير الذي منحه له الاطباء. ومرت الايام وهو يمني النفس بان تصح الملكة. وتضاءل الامل شيئا فشيئا حتى اختفى. توفيت الملكة بعد سنة كاملة من بدء مرضها. واكتست المملكة غمامة سوداء قاتمة من الحزن. حدادا على وفاتها. ونكست الاعلام واوقفت الاحتفالات. ولما حان اوان دفنها شيعها الملك رفقة وزرائه والشعب من خلفهم يبكيها الصغير والكبير. لما لمسوا فيها من طيبة وحنو عليهم. كانها الام وهم ابناؤها. وصار الامير ضياء الدين جنبا لجنب على يمين الملك سمو الدين. الذي امسك امير ولم يتخلى عنها طيلة الوقت. وهو يبث من خلال قبضته على يده شعور المواساة لابنه. الذي اصابه يتم الام وهو ما يزال صغيرا. وفي كل مرة ينظر فيها الى عينيه. يخبره ان كل شيء سيكون بخير. وبانه لن يتركه ابدا يشعر بوقع هذه المأساة التي اصابتهما. الملك على ان لا يتزوج ابدا حين كان في خلوته. ووعد نفسه بان يخصص كل يوم وقتا للامير كي يشرف بنفسه على تربيته. فقد كانت تلك مهمة الملكة وقد رحلت الان. ولا يمكنه ان يأمن على الامير من تقصير الخدم والمربيات والمعلمين. ومرت الايام والشهور. وتجاوز الملك والامير والشعب جميعهم مأساة وفاة ملكة. ولم يشعر ضياء الدين ابدا بغياب والدته. فكلماتها ونصائحها لا زال صداها يتردد على مسمعيه في ارجاء القصر. فالمربيات التي اختارتهن هي بنفسها. ما زلن يشرفن على تربية الامير. ويفعلن تماما كما فعلن وهن تحت امرتها وهي قيد حياتها. اما الملك سمو الدين. فكان يخصص وقتا قبل تناول وجباته للاجتماع بالامير ليعرف منه احواله وما بلغه من درجة في العلم الذي يتعلمه. وما اتقنه من الفنون التي يتدرب عليها. فقد اختار لتعليمه وتدريبه خيرته وامهر المعلمين في مملكته. هكذا لم يشعر الامير ضياء الدين ابدا بغياب والدته. بل احس ان تلازمه في القصر. فغرفتها هي والملك لم تتغير. ولا زال الملك يستقر فيها ويتخذها سكنا له في لياليه. ولم يجرؤ ابدا على الزواج مجددا. بل كرس حياته لشعبه وللامير. وبالرغم من ان اكبر وزرائه اشار عليه يوما بان عليه الزواج مجددا. واقترح عليه ان يزوجه الحسناء. وحاول اغراءه بها في حفل عشاء اقامه على شرفه. وجعلها تقدم له الطعام والشراب رغبة في استمالته بما يظهر من حسنها وادبها. الا ان قلب الملك لم يفرغ بعد من حبه لزوجته الملكة. ولم تتحرك عاطفته لاحد بعدها. وظل على عهد لم يقطعه لها ابدا. لكنه قطع لنفسه بالا يتزوج غيرها. ولن يكرس حياته الا لولده الامير ضياء الدين ولشعبه ومملكته. وبالرغم من ان الوزير كرر طلبه والح فيه الحاحا شديدا. وحاول ان يدفع الملك سمو الدين للزواج مجددا. وحشد لذلك الرأي وزراء ومستشارين اخرين. مدعيا انه انما هو يحاول ان يخرج الملك من حزنه وحداده الذي طال على الملكة. وبالرغم من ان كل اولئك وافقوه على حسن رأيه. الا ان الملك رفض الامر. وامر الجميع بعدم الخوض فيه مجددا. مبينا لهم عدم وجود نية لديه للتخلي عن رأيه وقراره بعدم الزواج. عاش الامير ضياء الدين في القصر ردحا من الزمن. ثم لما والده الملك انه قد بلغ من العمر ما يجعله قادرا على فهم امور السياسة والحكم. شرع في ارساله نيابة عنه الى الممالك المجاورة. ليتعلم فيها الاختلاف بين شؤون الحكم في مملكته وبينها في الممالك التي سيزورها. وليلمس من خلال تلك الفروق نقط القوة بالمملكة ونقط ضعف الممالك الاخرى. واخبر والده قبل ذلك الا يعود الا وقد فهم قوله. بان الاعداء يستكينون لصداقته حين يدركون قوته. ويستدعون عداوته حين يشعرون بضعفه. واخبره انه لابد لدوام السلم مع اعدائه من ادراك نقط ضعفهم ليجعلها منطلقا لقوته حتى يرتدعوا منه. كما ان عليه ان يشعر والتقدير لمملكته ويفهم استقلال شأنها عن شأن غيرها. ويتجنب التقليل من شأن شعبه لانه بذلك سيرفع شأن الممالك الاخرى فيتسبب باضعاف مملكته. وبعد سنوات من تنقل الامير ضياء الدين بين عدة ممالك. تعلم مما يجيش بها من اضطرابات بين الحين والاخر. ان عدل يزيده حبا بين شعبه. لكنه في ذات الحين يؤلب عليه الطامعين في الجاه. والذين تشرئب اعناقهم الى ادراك نوال وعطايا وثروة بتقربهم منه. وتعلم ان جور الملك على شعبه يجعله لعبة بايدي الطامعين يخوفونه من كل ذي حق. فيزيد بذلك ظلمه لشعبه ويزداد بعده عنهم. ويعيش لحياته ظالما قابعا في حاشيته خائفا من شعبه. ولن يطول الامر انذاك حتى تنقلب عليه الحاشية مدعين بذلك انهم انما يحمون الشعب من ظلمه. وفهم ان القوة والسلطان بيد الملك انما هي موهوبة له ليكف اصحاب الاهواء عن اهوائهم. وينصف المظلومين بعدله وقوته. ويقيم القسط بينهم دون تردد او ارتباك. وتعزز لديه يقين بان والده الملك. خير من يقتدي به في هذا الشأن. فعاد الى والده مهيئا لشؤون الحكم. ومتطلعا لمزيد من حنكة الملك الذي قضى ربع قرن في ادارة المملكة ولم يحدث ان وقع في عهده اضطرابات او ثورة ضده. حين عاد الدين الى المملكة. كلفه والده بادارة بعض شئونها. واعلنه وليا للعهد من بعده. ولان الامير لم يخبر دواليب القصر بما فيه الكفاية. ولم يدرك بعد ان الناس حتى وهم محط ثقة والده قد يكونون على غير ما يظهرون. فقد كان ينظر باحترام للجميع. ويتلقى مشورتهم على انها حسنة. لا غاية من الا ارشاده. فدأب على استشارة والده او اي من وزرائه ومستشاريه في كل امر استعصى عليه. ويأخذ بمشورتهم تلك بحسن نية. والحق ان لا احد من اولئك كلهم اشار عليه بخلاف ما فيه الخير انذاك. فقد كان الجميع يتطلع ليحظى بمنزلة لدى الامير الشاب. وهو الذي سيصبح ملكا قريبا. وتمنى منهم ان لعل ذلك يحفظ لهم مكانتهم التي نالوها مع والده. مرت شهور قليلة على عودة الامير ضياء الدين الى المملكة. فلمس فيه الملك حكمة وبراعة في ادارة وتدبير المهام التي اوكله بها. وشعر بالفخر. فابنه قد اصبح قادرا على الحكم من بعده ولم يبقى الا قلة امور ليطلعه عليها. ولان شارف على السبعين من عمره. فقد كان يلم به المرض بين الحين والاخر. فيعجز عن تدبير شؤون المملكة. فيكلف الامير وولي عهده بادارة شؤون البلاد الى ان يستعيد عافيته. فحمد الشعب الله على ان جعل الامير ضياء الدين حسنا في حكمه وتدبيره كوالده. فقد نجح في اختيار قضاة جدد لمحاكم المملكة. ولم يلتف ذلك الا لرأي الناس فيهم. وما سرى من سمعتهم وسعة علمهم وعدلهم بين الناس. واطمأن الناس في المملكة حتى في اشد لحظات المرض التي تعصف بالملك. بعد ان كانوا يخشون ان يترك المملكة من بعده مرتعا للمفسدين والطامعين فيفسدون شؤون الحكم على الامير الصغير. فيصيبهم من ذلك جور شديد. لكن الناس وعلى اطمئنانهم على المملكة. كان يرجون للملك حياة مديدة. ويتمنون ان يطول بقائه فيهم. فقد عوضهم عن كل ما عاشوه من ظلم في عهد والده. وفي احد الايام. وبينما كان الملك واقفا وسط وزرائه ورجاله في اجتماع يتداولون فيه شئون المملكة. سقط مغشيا عليه. وسط دهشة من الجميع. وهم يظنون انه قد مات. فامر الرجال بحمله الى غرفته. واستدعى له طبيب القصر. ومضت ساعات قبل ان يستفيق الملك. وفتح عينيه ليجد الامير ضياء الدين بجانبه. فظهرت ملامح سرور على وجهه لكنه عجز عن الكلام. سرت شائعات في القصر وخارجه. وتناقل الناس نبأ وفاة الملك. وبدأ الطامعون يحيكون الدسائس للامير وهو في غفلة عنهم. فقد لازم الامير والده الذي استلقى على ذات الفراش. الذي توفيت عليه الملكة قبل سنين. وكثيرا ما تمنى ضياء الدين ان تفرج شفتا والده عن كلام يسري عنه ما يجد. وشعر ان وقع مرض والده اشد عليه من مرض والدته. فحينها كان لا يزال صغيرا. ولم يدرك بعد معاني الفراق. ولم يكن حين مجبرا على تحمل المسئولية التي تتربص به الان. فموت والده يعني ان يصبح هو ملك البلاد. ولهذا كان في حاجة شديدة ليسمع ولو نصيحة واحدة من نصائح والده. فهو لم يعرف بعد من يمكنه ان يثق بهم من رجال والده. ولا من منهم يجب عليه ان يحذر منه. كما انه لا زال يفتقد لحنكة ابيه في ادارة والجيوش ولم يتعلم منه ذلك بعد. كان يراقب وجه ابيه حتى تدفقت من عينيه دموع. فمد يده نحو خده ومسحها عنه. وتطلع اليه باشفاق شديد. غادر غرفة الملك واختلى بالطبيب واكبر وزراء والده يستشيرهم فيما يمكن ان يفعله لشفاء والده. فاشار عليه الطبيب مجددا بحكاية ترياق دموع القمر. فارسل ضياء الدين الى اطباء اخرين مستقصيا عن حكاية هذا الترياق العجيب. الذي يشفي الامراض ويمنح المرء قوة يزيد عمره سنينا. فاتاه الخبر من كل من استفسرهم بانهم سمعوا عن صحة هذا الامر. وقرأوا عنه في كتب الطب التي درسوها. فاجتمع الامير بالوزراء والمستشارين يطلب رأيهم في ذلك. فرأى بعضه الامر مغامرة محفوفة المخاطر غير مأمونة العواقب. واكدوا له ان والده تخلى عن هذا الامر حين مرضت الوالدة الملكة. ولم يرغب ابدا بارسال احد من رجاله ولو كان اقواهم الى تلك البلاد. فقد ورده ان تلك مهلكة لا مناص منها. لكن اكبر وزراء والده مؤيدا بالطبيب اضافة الى بعض من الموالين له. اشاروا ان يفعل ذلك ولا يتردد. فحياة والده اهم من حياة اي رجل اخر من شعبه. فهم يدينون له بما فعله من اجلهم. استغرق الامير طويلا وهو يفكر في الامر. وبدا ان حال الملك لا تتحسن. بل تتدهور يوما بعد يوم. فاجتمع بكبير الوزراء واخبره انه عازم على الذهاب بنفسه الى تلك البلاد. وسيرافق بعض من خيرة فرسان المملكة لاحضار الترياق. وسيثبت للجميع انه محق فيما يفعل. وفوض اليه الاشراف على حال الملك الى حين عودته. وامر الطبيب بملازمته وفعل كل ما يلزم للحفاظ على حياة الملك. حتى يعود. كان كبير الوزراء مندهشا من قرار الامير بالذهاب في هذه المغامرة. فكل ما كان يسعى اليه في بدء الامر هو التخلص من بعض منافسيه من اقوى رجال الملك. في نيل الحظوة لدى الامير. لكنها الان غدت فرصة اكبر مما تمناه يوما. فاقسم للامير على تدبير شؤون المملكة بحكمة. والحفاظ عليها وكانه لم يغادرها ابدا. وبانه سيحافظ على الامانة ويكتم الامر الى حين عودته. توجه امير ضياء الدين الى رئيس الجند. وامره بان يختار عشرة من خيرة فرسان المملكة واقوى رجالها ليرافقوه في رحلته. وامره ان يكتم الامر حتى يعود من رحلته. ونفى الامير وجود احتمال لعدم عودته. ومضى برفقة الفرسان ليلا يسيرون بسرعة ناحية الجنوب. كان الوزير قد اعد مخبرا له يقتفي اثر الامير ضياء الدين مع الفرسان يسير خلفهم ويترقب ان يغادروا حدود المملكة. ولان كبير الوزراء يدرك ان مملكة الجنوب تكن العداء الشديد للملك سمو الدين. فقد ارسل الى ملكها رسالة يخبره فيها انه يهدي له رأس الامير ضياء الدين الخليفة الوحيد لسمو الدين على طبق من ذهب. شرط ان يدعم انقلابه وسيطرته على حكم المملكة. فارسل له ويعده بتحقيق شرطه. واعد ملك مملكة الجنوب العدة وعزم على اسر الامير. كان الامير يدرك العداء الذي بين ابيه وبين ملك مملكة الجنوب. بسبب لجوء المظلومين من مملكة الجنوب الى الملك سمو الدين. فارسل سرا قبل انطلاقه مع الفرسان واحدا من قادة الجند يسبقهم الى حدود مملكة الجنوب. ولما لحق قدم له الامير ملابسه. واكتفى الامير بملابس كالتي يرتديها واحد من عامة شعب مملكة الجنوب. ومضى الفرسان في طريقهم مع قائد الجند. بينما تخلف عنهم الامير ومضى في طريق اخر على قدميه. تاركا حصانه لقائد الجند. وامرهم بسلك الطريق المشهور الى المدينة قرب الجبل. وهكذا صار الامير على قدميه او على عربة يقله صاحبها لثلاثة ايام. قبل ان يصل الى المدينة. حيث يقع هذا الجبل الشاهق الذي يمتد فوق السحاب. ودخلها وكانه واحد من اهل مملكة الجنوب. ومر باسواقها واكل طعامه بها في امن وسلام. ثم تزود منها بطعام يستعين به على تسلق الجبل. وسمع دار بين رجلين جلسا بجانبه عن اسر الامير ضياء الدين من قبل الملك. فعلم ان شكوكه واحتياطه كان في محله. لكنه لم يدرك بعد ان وزيره كان خلف الامر. انطلق الامير في مغامرته وتوجه ناحية الجبل. ومضى يوم قبل ان يصل اليه. وها له المنظر الذي يشمخ به عاليا. والسحابة التي لا تفارق قمته ابدا. فهي تتعلق به وكأنه يغذيها ويزيدها قوة فلا تنقشع ابدا. ومضى يسير طيلة اليوم الموالي متسلقا في شعبة من شعاب الجبل. الى ان يصطدم بجرف عال فيحاول ان يلتف حوله. فيجد نفسه مرغما على العودة للخلف. توقف حين ساد ظلام الليل ليلتقط وليرتاح الى ان ينبلج الصبح فتناول طعامه. ثم استلقى على مساحة صغيرة من الارض المستوية. وبعد ان بدأ الليل حتى رأى الاعاجيب. فقد كان الجبل مضاءا بصواعق تخطف الابصار وتمتد من السحاب وكانها رماح مسننة تصطدم بالسفح وتقتلع الصخر من مكانه. فتهوي الجلاميد العظيمة مصدرة شديدا يرافق هزيم الرعد الذي يدوي في الارجاء. فتهز الارض كأن زلزالا اصابها. كاد الامير من شدة الرعب الذي اصابه. ان يولي هاربا مندفعا للاسفل. ولو محاولا ان يحلق في الهواء لولا انه رأى في ذلك حتفا يلقاه لا محالة. لكنه تذكر ما اخبرته امه به يوما. بان لحظات التي تمر بالمرء. هي تلك التي يعجز فيها عن رؤية الامل. فيستسلم لليأس. فيفشل. كانت الذكرى التي مرت بخاطره في تلك اللحظة كأنها اوتاد من حديد. تقف بينه وبين الصخور المتساقطة وشظاياها وغبارها. وكأنها مظلة تقيه كل سوء. فتقدم ببطء حتى احتمى من كل ذلك بجرف تطايرت من فوقه الصخور نحو الاسفل. وكانها تحاول ان تصيبه ولا تجد اليه سبيلا. ساوره شعور بان هناك عفاريت تقف في الاعلى وتقذفه بتلك الصخور محاولة ابعاده عن الجبل. فظل ماكثا في موضعه حتى انبلج الصبح. وخفت وطأة الصواعق وتوقف الهدير الصاخب الذي ملأ الارجاء طوال الليل. تقدم ضياء الدين عبر سفح حذرا. ومتطلعا في كل لحظة الى السير قريبا من مكان يظهر له به جرف ليهتمي به من تساقط الصخور والصواعق مجددا ان تكرر الامر. وما كاد يصل الى حيث تبدأ الغمامة. حتى رأى منظرا بديعا لم يسبق له ان رآه ابدا. كان ينظر الى ضباب السحابة ومن خلفه تدفق اقواس ساطعة كالبرق. يضرب يتوقف. يتدفق كحبال من نور تهتز وترمي بشرر ملامسة لصخور براقة لامعة تظهر بارزة في الجبل. وكانها الذهب. وما ان حاول الاقتراب منها حتى اصابته شرارة صعقته فسقط على اثرها مغشيا عليه لا يتحرك. حين عم الظلام وسكن الليل محل النهار مجددا. استفاق الامير على وقح الهدير الصاخب الشديد. واضاء الجبل والسحاب حوله بالصواعق التي اشتدت اكثر مما كانت عليه نهارا. ورأى ان الجلاميد تتساقط من حوله وايقن انه هالك لا محالة. فقد وجد نفسه وسط الصواعق والصخور التي تتساقط ولا ملجأ له يأوي اليه. وكلما التفت للبحث عن ملاذ مما يجري حوله من صخب ارعبه الجلاميذ التي تمر بجانبه او فوقه حتى تكاد تلامس جسده. فرأى الموت يتربص به. ووقف مغمضا عينيه ينتظر لحظته الاخيرة. مترقبا ان يصدمه حجر او ان تبطش به صاعقة في اي لحظة. ولما اغمض عيناه واقفا بشجاعته تلك متجاهلا حجم الجبن الذي يصرخ بداخله ليهرب. رأى وكان عينيه المغمضتين تظهران له فتحة بين الصواعق التي تضرب الجبل. وكانها ترسم بوابة باقواسها الشديدة السطوع. فظن انه انما يتخيل المشهد بسبب اليأس الذي اصابه. فنظر ناحية الاحجار اللامعة كانها الذهب والى الصواعق التي تتصل بها فرأى المنظر العجيب الذي خيل اليه. التفت لينظر خلفه فكادت صخرة ان تصدم رأسه لولا انه ازاحه سريعا وعاد لمكانه. لكنها لم تتركه سالما فقد تركت جرحا خفيفا في رأسه سالت منه الدماء. مد يده يتحسس رأسه ويمسح على مكان الالم. فراعه منظر الدماء على يده تحت اضواء البرق في ليل حالك. وعلى جبل مرعب. ومع ما يراه من احداث عجيبة وما يصك اسماعه من صوت هادر وارض تهتز وكأنها ستنهار من تحته. تحرك ضياء الدين متجها الى تلك الفتحة التي تمتد تحت الصواعق. بعد ان لم يبقى له من امل الا ما صوره او خيل اليه. فبقاؤه في مكانه فيه هلاك حتمي. وعودته غير ممكنة في ظل ما يحدث. وما ان تحرك من مكانه حتى هوت صخرة عظيمة فيه ارعبته فتقدم مسرعا دون وعي نحو الصواعق يبتغي الاتقاء بها من الصخور. لاجئا الى ما تحتها من فتحة اذ رأى ان الصخور لا تقع بها. وما ان وصل اليها حتى شعر بلهيب يلفح الجسد. وكانه من نار متقدة. توقف لحظة ورأى بجانبه صخرة من الصخور المذهبة فوضع يده عليها محاولا ان يثبت به جسده بعدما بدأت الارض تهتز بشدة. فرأى ان الدماء التي كانت على يده قد رسمت اثرا لقبضته على الصخرة. ثم سرعان ما اختفت الدماء وكأنها تبخرت او ان الصخرة امتصتها. ابعد عن الصخرة في تلك اللحظة مستسلما مرعبا مما يراه. فبدأت الصخور المذهبة تمتد بارزة كالاوتاد اكثر فاكثر من الجبل. وكانها تنبت مندفعة نحو السحاب. ساحبة معها الصواعق بعيدا عنه مقيمة حواجز بينه وبين الصخور المتساقطة. ثم لم يلبث ان رأى وسطها طريقا مضاءا متدرجا صاعدا. وكانه يلتف حول الجبل وسط السحاب الذي انقشع عنه. تقدم في الطريق مندهشا ومذهولا مما يراه. فما من احد يمكنه تصديق ما يحدث. ففي لحظة لم يكن يفكر الا في ان يبقى على قيد الحياة. ها هو ذا قد استعاد ذاكرته سبب وجوده في هذا المكان. وشعر وكأن القدر يأبى ان يخيب امله. فصار صعودا على الطريق مستنيرا بالصواعق التي احال وهجها الليل نهارا. ولعل الناس في الاسفل لا يدركون ذلك. فالصواعق لا تضيء ليلهم. وانما يلمحون منها وهجا ضعيفا بسبب كثافة السحب المحيطة بالجبل. والتي لا تترك الا جزءا صغيرا من وهج البرق لينفذ عبرها. بعدما صار ضياء الدين فترة في الطريق. التفت خلفه متطلعا ان يرى الطريق امنا حين عودته. فرأى ان الطريق يختفي في ضباب السحب والصواعق التي عادت اليه مجددا. فاسرع خطاه يهرول وهو يخشى ان يدركه ما يراه خلفه من تغير الطريق. ولم يدري بنفسه الا وهو يتعرض لصاعقة شديدة اوقعته ارضا وافقدته الوعي. فظل راقدا في مكانه بقية الليل لا يدري بما يحدث من حوله. ولما انبلج الصبح وسطعت اشعة الشمس استفاق على سماء صحوة فوقه. ورأى منظرا عجيبا امامه فقد اصبح في جزء الجبل الذي يقبع فوق السحاب. ونظر للصواعق التي لا زالت تضرب الجبل اسفله. ورأى منظر السحاب من الاعلى وهي تحيط وكأنها بحر يحيط جزيرة من الجزر. ثم نظر حوله فاذا به يلمح بابا ضخما نحت اسفل جرف ابيض. كان جبلا جليديا وضع على قمة الجبل ونحتت عليه معالم بوابة الى داخله. ولمح اسفل قدميه طريقا مرصوفا ببلاطات كانهن رخام ابيض. وحول الطريق منظر بديع من الخضرة ذو رونق ترسمه الازهار التي تهتز على نسمات هواء خفيفة. مد يده الى رأسه يتحسس الجرح. فوجد الدماء قد تصلبت عليه. تاركة اثرا خشنا على جبهته. وشعر بالم شديد حين ضغط عليه. ثم صار على الطريق ممتلئا دهشة وذهولا. فلولا ان الجبل الذي صعده والسحابة التي تحيط به والبرق الذي رآه قبلا ما زالت تظهر معالمهم. لظن انه في ارض غير ارض الجبل. وحين وصل الى البوابة وجد سياجا يحيط بها عن قرب. وكان فيه باب صغير علقت به نواقيص صغيرة. وما ان حركه وفتحه حتى اصدرت الاجراس صوتا ورنينا. فاهتزت البوابة الضخمة منزاحة لليمين. وكان صوت مفتاح يفتحها. فظهر من خلفها نافورة تتدفق بماء رقراق عذب. اقترب ضياء الدين من النافورة. ثم التفت يبحث عن قرابه للمرة الاولى. منذ ان صعقه البرق اول مرة. فلم يجده وفيه يحمل زاده. وشعر لحظتها بالعطش. وتقدم وشرب من ماء النافورة المتدفق شربة اولى. فاحس ونشاط يتدفقين بجسده بشكل عجيب. فدنى الى النافورة يشرب منها مجددا حتى ارتوى. وذهب كل تعبه وتذكر عندئذ والده الذي تركه خلفه مستلقيا على الفراش يعاني المرض. وتفطن الى انه قد ارتكب خطأ كبيرا بتركه هناك. وعلم انه سلم مقاليد الحكم من حيث لا يدري لوزير والده الذي اصبح ان يفعل ما يشاء في المملكة دون رقيب ولا حسيب. ولربما انهى حياة والده من اجل ان يستفرد بالحكم. خاصة اذا بلغ لعلمه ان ملك مملكة الجنوب قد اسره كما يشيع بين الناس هنا. شعر بالندم على هذا الامر للحظات. وادرك ان الندم لن ينفعه. وعليه ان يسرع في العودة قبل فوات الاوان. مد يده عازما على تنظيف الجرح وغسل الدماء التي سالت على جبينه. فذهل وهو يتحسس مكان الجرح. وظل يمرر يده على جبينه دون ان يجد اثرا للجرح ولا حتى لتلك الدماء المتصلبة. فاندهش وتعجب مما حدث. وادرك صحة الرواية التي تدور حول ماء هذا النبع. وعرف انه بلغ مكان الترياق الذي سعى اليه كثيرون. وسعد كثيرا ورقص فرحا بان وجد دموع القمر. وظل طوال النهار يجول بالارجاء محاولا ان يجد اناء يمكنه ان يملأه بالماء الزلال. ليحمله الى والده ليشفيه من مرضه. ولكنه لم يجد شيئا. فاصابته الحيرة مما حل بقرابه الذي كان يحتفظ فيه بقارورة كان ينوي ان يحمل فيها الترياق. فاشتد دمه وندب حظه العاثر. ظل الامير في ذلك المكان الى ان حل عليه الليل. وسطعت انوار القمر الذي اكتمل بدرا قبالة البوابة الرخامية البيضاء. وتلألأت مياه النافورة عاكسة اضواءه. ولفت نظره شكل النواقيص المذهبة اللامعة والمعلقة على سياج البوابة. وبدت له حينئذ وكأنها اكواب معلقة على السياج بدل شكل الذي بدت به في اول الامر. فتوجه ناحيتها ونزع واحدا منها. فاذا به كوب من ذهب يصدر رنينا بسبب الغطاء المعلق بيده. وبينما كان يحملق فيه تذكر صرة نقود مصنوعة من الجلد يحملها. واخرجها من جيبه وقام بغسلها جيدا. ثم ملأها بمياه النافورة واحكم اغلاقها. وبين هو يفكر في طريق العودة وطول المسير. الذي ينتظره بعد ان انهى هذه المهمة. ملأ الكوب من مياه النافورة ليشرب منها في اخر مرة. وقبل ان يغادر. فارتشف من الكوب رشفة اولى فخيل اليه انه قد عبر الطريق نزولا من الجبل. ولما انزل الكوب من فيه رأى انه ما يزال في مكانه. وابتسم لخيالاته. فارتشف رشفة ثانية فخيل اليه ذات الخيال. فانزل الكوب مجددا فاذا به ما يزال في مكانه مبتسما كالعادة. وما ان ارتشف رشفة ثالثة حتى تبدل كل شيء حوله. واختفى الكوب من يده ووجد نفسه اسفل الجبل. والتفت للاعلى فاذا بالغمامة والصواعق تضرب فوقه لكنها اصبحت بعيدة جدا عن ان تصيبه او يصيبه جزء مما يحدث على هذا الجبل. تحسس جسده وما لبسه واطرافه. فاذا بقرابه قد عاد اليه من حيث لا يشعر. وتحسس الصرة فوجدها في مكانها منتفخ بالماء الزلال والذي احضره معه. وصار مسرعا في الظلام الذي لم ينجلي بعد مبتعدا عن وهو يخفي سره. فهو يدرك بحسن بديهته كم من الناس سيسعون للحصول على ما حازه. مضى في طريقه وتجنب ان يمر بقرية او مدينة من مدن مملكة الجنوب. وصار طويلا يقتات على ما تبقى من زاده. متصبرا على الجوع والعطش الذي لا يكاد يشعر به. الا بعد ان يمضي يوم كامل على اخر لقمة يتناولها. ومضى بلغ حدود مملكة الجنوب ودخل ارض مملكته دون ان يشعر به احد. وتوجه الى كوخ على اطراف قرية متاخمة للحدود. حيث ترك له قائد الجند حصانا لدى شيخ امين من سكانها. وطلب منه ان يسلمه الحصان ودفع له اجر رعايته له شاكرا. ثم توجه الى عاصمة المملكة متخفيا. فقد تناه لسمعه انباء عن ان ايام الملك باتت معدودة. وقد عزم كبير الوزراء على تسلم الملك. وهو يعد لجنازة تشييع الملك. وجعل الحاشية ترضخ للامر الواقع بعد ان وصلتهم انباء عن اسر الامير من قبل ملك مملكة الجنوب. كان الناس حائرين وخائفين. فقد طلب ملك مملكة من الوزير التخلي عن نصف المملكة في سبيل اطلاق سراح الامير المأسور. وهو شرط تعجيزي. جعل الناس يرون ضرورة تنصيب ملك جديد يقود المملكة ويحميها من الشر الذي يتربص بها. ولم يكن ملك الجنوب ولا الوزير يدريان ان من وقع في الاسر ليس سوى قائد للجند. مع عشرة فرسان. الا ان صدقوا الشائعة خاصة وان الامير لم يظهر لينفي الخبر. ولما وصل الامير الى القصر. دخل اليه متسللا عبر باب سري اطلعه عليه الملك في يوم من الايام. واخبره انه يخرج منه متخفيا ليستطلع احوال شعبه دون ان يتعرف عليه احد. وتسلل الى غرفة الملك. حين سنحت له الفرصة. فوجده وحيد مستلقيا على فراشه لا يحرك ساكنا. ولم يكن الطبيب الذي اوصاه به هناك. بل غادره واهمله. وكأنما هو خادم من الخدم ينتظرون موته ليتخلص منه. اقترب من والده بعدما احكم اغلاق ابواب الغرفة. واخرج الصرة وفتحها ثم مد يده نحو رأس والده يسنده وهو في سبات شبيه بالموت. ثم فتح فاه وصب فيه الماء رشفة رشفة. وانتظر فترة من الزمن ولم يظهر على الملك اثر ينبئ عن حدوث شيء. فاجهش ضياء الدين بالبكاء وهو يعلم ان ما ينتظره اشد من وفاة والده. وانكب على يده يقبلها ويطلب صفحه على ما فعل بمملكته. فشعر باليد تتحرك ببطء. ثم في دهشة رفع رأسه وهو يتطلع لوجه والده. فاذا به يشهق شهقة طويلة زفر بعدها الهواء زفرة كانت اشبه بخروج روحه. لكنه وعلى عكس ما خشي ان يحدث فبدا ان الملك يحاول ان يفتح عينيه. فمد ضياء الدين الماء اليه مجددا يسقيه. بينما هو يكفكف دموعه في فرح. وقد غمر الامل باستفاقة والده. مرت لحظات قليلة من الشك والحرب التي نشبت في صدر ضياء الدين بين امل باستفاقة والده ويأس منها. ثم فتح الملك سمو الدين عينيه وحرك يديه. ولم يدم به الامر طويلا قبل ان يرفع رأسه ويقيم جسده. ثم بعد لحظات وقف منتصبا. سأل الامير عما حدث اثناء مرضه. فقص عليه ما مر به من احداث. حتى عجز الملك عن تصديقه لولا انه لم يجرب عليه كذبا قط. واكتشف الامير بحنكة والده مؤامرة الوزير الذي سعى كثيرا للاستيلاء على ملكه. فاقترح الامير على الملك ان يخفيا شفاءه. ويستدرجا الوزير الى غرفته من خلال احد الخدم ليحسماه في مؤامرته. فارتدى الدين لثامه وبدا في لباسه كواحد من ابسط بسطاء شعبه. وخرج من الغرفة. ثم امر احد الخدم ان يخبر الوزير بحضور طبيب جديد للملك. طلبه الامير قبل ايام. فحضر الوزير بسرعة الى غرفة الملك. مستغربا وصول شخص غريب اليها. وقد شدد الحراسة على بوابات القصر. وامر الا يدخله احد الا باذنه. وما ان شاهد ضياء الدين وهو لم يدرك بعد انه الامير. طلب منه مغادرة القصر فورا. فاخبره ضياء الدين ان الامير هو من ارسل في طلبه قبل ايام. وقد وصل للتو ليعالج الملك. لكن الوزير اخبره ان الملك لم يعد ينفع معه علاج. فقد دنا اجله وقد كشف عنه طبيب القصر الابرع منه في ذلك واستسلم. اصر ضياء الدين على تنفيذ امر الامير ومعالجة الملك. فهدده الوزير باعتقاله وسجنه. واخبره انه لم يعد هناك من امير ولا ملك لهذه المملكة. وبان الامر ال كله اليه وهو الامر الناهي فيها. فاستدعى الوزير الجند لاعتقال الامير. ولما اخبر الوزير بانه يحمل ترياقه دموع القمر القادر على شفاء الملك من مرضه. رد عليه بانه انما ارسل الامير في تلك المهمة ليتخلص منه لا ليعالج والده. وبما ان امر الامير انتهى فلا شيء يحول دون انهاء امر الملك. فاما ان يموت طوعا او يلقى حتفه على يديه. ولما دخل الجند لغرفة الملك. ورأى الامير ان الوزير مصر على حرمان الملك من الشفاء وباي ثمن. ورأى عزمه الشديد على الانقلاب على والده. قرر ايقاف اللعبة ونزع اللثام عن وجهه. كاشفا للوزير وللحراس عن نفسه. فصرخ الوزير في الجند ليقتلوه. الا انهم ترددوا في ذلك فاستل سيفه عازما على قتل الامير. فقام الملك عندئذ من فراشه. وقد استعاد عافيته ونشاطه كما لم يكن من قبل. ووقف الوزير مذهولا مما يرى. وقبل ان ينطق بكلمة واحدة اشار الملك للجند ليقبضوا عليه. فخر على ركبتيه يستجدي عطف الملك والامير معا. لكنه خاب واستسلم وحوصر في السجن قبل ان يلحق به الطبيب الذي تواطأ معه على اهمال الملك ليلقى حتفه. اشاع الملك خبر عافيته وشفائه في المملكة. وكتم خبر عودة الامير. مؤجلا اياه الى ان يفرج عن من اسرهم ملك مملكة الجنوب. فرح الناس بشفاء الملك. وعلموا بغدر الوزير. واحتشدوا مع الملك في فيالق ضخمة جندها وارسلها الى الجنوب مهددا بها الملك الغادر اما بالافراج عن الاسرى او بغزوه والاستيلاء على مملكته. ولان ملك مملكة الجنوب كان خائفا من ان يوالي شعبه الملك سمو الدين لما عرف عنه من عدل. وافق مرغما على عقد معاهدة صلح بينهما. ولم يدرك الا في اللحظة التي وقع فيها المعاهدة ان الامير هو من يقف قبالته. وان من بيده لم يكن سوى قائد للجند فقط. فادرك حنكة الملك سمو الدين وابنه الامير ضياء الدين. وعرف من لا يتنازل عن واحد من شعبه لا يمكن ابدا ان يتنازل عن جزء من ارضه. ولا يمكن هزيمته ابدا. فقد ساوى بعدله بين ابنه وابناء شعبه. وسيحقق النصر قبل ان يبدأ معركة من المعارك. فالجميع سيضحي من اجله قبل ان يضحي هو بنفسه. وهكذا نال الوزير وطبيب القصر جزاءهما جراء الخيانة. ونفاهما الملك سمو الدين الى مملكة الجنوب. محرما عليهما ان تطأ اقدامهما ارض المملكة. ما دام هو وابنه من بعده على قيد الحياة. وعاد الفرسان وقائد الجند المأسورين الى احضان ذويهم. واحتفل الشعب طويلا بانكشاف الكرب. وعاش الملك سمو الدين يحكمهم عمرا مديدا مع ابنه حتى قضى في خمسين عاما من الحكم. ثم خلفه ابنه ضياء الدين وكان فيهم بحق خليفة يليق بابيه. عادلا احبه شعبه كوالده. ونال بحلمه وبصيرته ما ناله والده من شرف لدى شعبه. وظل محتفظا بقارورة صغيرة من ترياق دموع القمر تذكره بالاهوال التي عاشها على الجبل. ونجا منها كلما الم به كرب. فيدرك ان الشدائد ستزول والاهوال يعقبها فرج عظيم. انتهت الحكاية. انتهت الحكاية. انتهت الحكاية.
عدد الكلمات: 5294
عدد الأحرف: 27661